غزة، الأرض الفلسطينية المحتلة – نشارك في التدوينة الثانية من سلسلة "أصوات من غزة" تجربة أمل زقوت—مسؤولة البرامج المجتمعية في جميعة العون الطبي للفلسطينيين (ماب)—والتي نزحت إلى رفح في جنوب غزة. ترعى أمل بمفردها ابنيها الاثنين وتعمل في ماب منذ سبعة أعوام. تسرد أمل في هذه التدوينة تجربتها على مدار ستة أشهر ماضية وتتحدث عن أكثر الأشياء التي تفتقدها من حياتها قبل بدء الهجوم الإسرائيلي على غزة.
كنتُ مستغرقةً في النوم عندما بدأ كل شيء وكنتُ وصديقتي قد خططنا للذهاب إلى شاطئ البحر في ذلك اليوم حيث كنا سنذهب للمشي والجلوس في مقهى لشرب القهوة. كان يوماً خصّصناه لأنفسنا لنرتاحَ ونستمتعَ فيه ولكنّنا لم نذهب في النهاية لأننا أدركنا أن الحرب وشيكة وأن الوضع برمته سيكون مرعباً.
كنا نعيش تحت الحصار الإسرائيلي قبل هذه الحرب وتحت قيودٍ مشددةٍ على حرية الحركة والتنقل. كان الجيش الإسرائيلي يقصف غزة كل عام أو نحو ذلك ولكن لم يكن أيٌّ من ذلك على مقربة مما نعيشه حالياً؛ فقد كان لديّ أصدقاء وعائلة وكنتُ أخرج من البيت وأقوم بأشياء كثيرة وكنتُ أدرسُ للحصول على درجة الماجستير وأعملُ في وظيفة أحبها. كانت الحياة في غزة مستمرة رغم صعوبتها واستطعتُ أن أصنع حياةً لنفسي والتي لم تكن مترفةً قبل الحرب ولكنّها كانت جيدة؛ أما الآن فلم يعد هناك حياة.
كان الحصار قبل أكتوبر الماضي يعني مواجهة مشكلةِ انقطاع التيار الكهربائي في منزلي بشكلٍ دائم ولكنّي قمتُ بتركيب لوحة للطاقة الشمسية واستثمرتُ بكل ما كان لدي في المنزل لأعيشَ مع ابنيَّ الاثنين براحةٍ قدر المستطاع في ظل تلك الظروف. لم يرِد لذهني حتى أنّنا سنضطر لمغادرة منزلنا. لماذا قد نفعل ذلك؟
في الساعة الثالثة صباحاً من إحدى الليالي اتصل بي ابن أخي يسألني إذا ما كنتُ مستيقظة حيث كان أحد الجيران قد أخبره أن القوات الإسرائيلية اتصلت بهم وأخبرتهم أنها ستقصف منزل أخي وأن عليهم المغادرة على الفور. هرع أخي وعائلته إلى منزلنا وكانوا في حالةٍ لا يمكن لأحدٍ تصوّرها ولم يحملوا معهم أي شيء سوى الثياب التي كانوا يرتدونها؛ فعندما تتلقى خبراً بأنه سيتم قصف منزلك تتصور أن ذلك سيحدث في الحال ولذا غادرت عائلة أخي دون أن تحمل معها أي شيء.
لم ننم تلك الليلة و تلقينا في صباح اليوم التالي رسائل نصية من الجيش الإسرائيلي تفيد بأنهم يفتحون ممراً للناس لمغادرة منازلهم في شمال غزة اتجاهاً للجنوب. حدث وقتها جدالٌ كبيرٌ بين أفراد عائلتي إذ لم أُرد ولا ابناي مغادرةَ منزلنا ولكني أيضاً شعرتُ بالخوف والمسؤولية تجاه حياتهم وسلامتهم حتى بالرغم من أنّهما شابّانِ يبلغان من العمر 22 و24 عاماً.
قال لي أخي شيئاً غيّر من منظوري لكلَّ شيء: "غادري طالما لازال بمقدورك المغادرة." روّعتني تلك الكلمات وتخيلتُ أن تأتي إلينا قوات الجيش الإسرائيلي أو أن تؤذي ابنيَّ أو تعتقلهما. غادرنا حينها واتجهنا إلى رفح حيث لدينا أقارب هناك وأقمنا معهم. كان ذلك نزوحنا الأول قبل أن ننتقل بين منزلين آخرين في رفح.
انتقلنا بعد ذلك إلى منطقة الزوايدة في دير البلح لأنّ إقامتنا مع الناس كانت أمراً صعباً علينا ولم نرد أن نكون عبئاً عليهم فليس من السهل البقاءُ في منزل شخص آخر. أريد العودة إلى منزلي وهذا أقصى مناي الآن—أن أكون هناك في منزلي ومع ابناي. لا يهمني الجدار الذي يجمّع الرطوبة فيه ولا إطار الباب الذي يهتز باستمرار ويحتاج لتثبيته بالأرض ولا أي مشاكل أخرى فيه؛ أفتقدُ منزلي كثيراً وأريد فقط العودة إليه. لا يمكنك تصوّر مدى صعوبة العيش مع عشرات الأشخاص داخل شقة صغيرة في ظروف الخوف الشديد والجوع والحيرة فيمن سيكون القتيل التالي.
لدينا قطتان نعتبرهما جزءً من العائلة منذ صغرهما وقد أخذناهما معنا من مكانٍ لآخر وكان أمراً صعباً خاصةً عندما كنا نأخذهما إلى منازل الآخرين؛ كان يبدو ذلك جنونياً ولكنهما كابنيَّ ولم أستطع تركهما في الشارع.
في كثير من الأيام أتمنى أن أخلد إلى النوم دون أن أستيقظ في صباح اليوم التالي فقد أصبح البقاءُ على قيد الحياة أمراً صعباً للغاية ولم يعُد بإمكاني أن أشعرَ بأنّي محظوظةٌ لأننا ننجو من الموت؛ فقد تم تدمير منزلي وفقدتُ الكثير من أحبائي وأصبح البقاء على قيد الحياة صراعاً لا ينتهي من أجل الحصول على القليل من الطعام والمياه والأمان.
نواجهُ مشكلةً كبيرةً في الوصول للمياه في مكان لجوءنا حالياً حيث يتوجب علينا الذهاب لشراء الماء ومن ثمَّ ملؤ خزان المياه أو الاتصال بأحدٍ ليأتي–إذا تمكن حتى من ذلك–ويملأ الخزان لنا. يلجؤ في ذات المكان 30 شخصاً منهم العديد من الأطفال مما يجعله مزدحماً، كما كل الأماكن التي تذهب إليها والتي تؤوي ما لا يقل عن 20 أو 30 شخصاً. وكل شيء باهظ الثمن والوضع شنيع.
الفواكه غير موجودة في الأسواق وحتى مجرد التفكير برؤيتها أصبح حلماً بالنسبة لنا وكذلك أي طعام صحيّ، كل طعامنا عبارة عن معلبات غذائية بالكاد تصلح للأكل ولكن ليس لدينا خيارٌ آخر لأننا نحتاج للحصول على أكبر قدر ممكن من السعرات الحرارية من أجل البقاء على قيد الحياة.
كما أنه لا يوجد أسواق للذهاب إليها والبحث فيها عن شيءٍ يُشترى حتى ولو كنتَ تملك الثمن. هناك فقط باعةٌ على جانب الطرقات وما نشتريه من معلبات غذائية أو زيت يكون من هؤلاء الباعة وهو ليس بطعامٍ لإنسان فحتى قطتايَ—فلافي ولولو—لا تأكلانه.
لا يتوفر لدينا اتصال بالإنترنت والشيء الوحيد الجيد في مكان إقامتي حالياً هو وجود لوحة للطاقة الشمسية توفر لنا الكهرباء. اضطررنا لغسل ثيابنا يدوياً لمدة أربعة أشهر، كما افتقدنا غاز الطهي واضطررنا لشراء الخشب وإشعال النار لطهي الطعام وغلي الماء من أجل الاستحمام. هذه كانت حياتنا؛ كأنّنا نعيش في الماضي معتمدين على أكثر الأشياء بساطةً—دون كهرباء أو غاز ولكن بالاعتماد على النار فقط.
لقد أصبح التواصل الاجتماعي ومع زملائي في ماب أمراً مستحيلاً تقريباً، كما يصعبُ عليَّ الوصول إلى عائلتي. أتواصل مع طاقم ماب عندما أستطيع وأسأل إذا ما كان هناك شيٌ بإمكاني المساعدة فيه وقد ساعدتُ في توفير فراش ومستلزمات أخرى للعائلات التي نزحت من منازلها، وأساعد حالياً في إنشاء نقاط طبية في مناطق مختلفة في جنوب غزة.
أحنُّ لأشياءٍ كثيرةٍ كالاستيقاظ صباحاً والاستحمام في منزلي وشرب قهوتي والذهاب إلى العمل ورؤية زملائي في المكتب ومن ثمَّ العودة إلى المنزل وخوض حياة طبيعية مع ابناي. أريد رؤية إخوتي وأخواتي في عطلة نهاية الأسبوع والذهاب مع صديقتي في كل صباح للمشي على شاطئ البحر. أتمنى من أعماق قلبي أن أتمكن من رؤية غزة كما كانت قبل الحرب. أريدُ أن أقف بجوار البحر؛ لا أن أراه من بعيد.
آمل أن تنتهي الحرب وكفى فقداً وموتاً وقتلاً. لا أريد سماع المزيد من أصوات القذائف فكل ما أسمعه يومياً وفي كل وقت وحيثما ثهبت هو انفجار تلو الآخر يحرمنا حتى من النوم. أريد أن تنتهي الحرب.
كان طاقم ماب في غزة من أوائل من استجابوا لحالة الطوارئ الحالية ومازال ضمن المؤسسات الدولية القليلة المستمرة في تقديم الخدمات الطبية والإنسانية في مختلف المناطق بما فيها شمال غزة.
نرجو تبرعكم الكريم الآن للمساهمة في استجابتنا الطارئة
هذه التدوينة الثانية من سلسلة "أصوات من غزة "حيث نقدّم من خلالها أفراد طاقم ماب في غزة. تابعونا لقراءة التدوينات المقبلة.
الصورة: أمل زقوت، مسؤولة البرامج المجتمعية في جمعية ماب في غزة.